(الحلقة مئتان وأربعٌ وخمسون)
وهذا شاعر آخر من شعراء العصر المملوكيِّ، ولد في حماة سنة أربعين وثمانِ مئةٍ من الهجرة النبويَّة الشَّريفة، وأقام في دمشق هوعليُّ بن محمد بن عليّ ابن مُليك الحموي، له ديوان شعر سمَّاه: (النَّفحات الأدبيَّة من الرِّياض الحمويَّة)، وقد كان شاعرًا مكثرًا مجيدًا فصيحًا سريع البديهة، تميَّز شعره بشكل عام بالرِّقَّة والعذوبة والسهولة واللُّيونة، وأشبه في سماحة الطبع شعر البهاء زهير على الرّغم من عدم خلوِّه من المحسنات البديعيَّة التي هي طابع هذا العصر، وليس أدلّ على هذا من هذه القصيدة الفائقة الرَّائقة التي قال فيها:
أمَـا ولَـماهُ ورشْـف الـقُـبَـلْ بـشـرق الـلَّـواحـظِ مـا لي قِـبَـلْ
فـيَا مَن يروح قتيلَ السُّيوفِ إلـيْــك فـإنِّـي طـعــيـنُ الــمُـقَـلْ
بهِ صِرتُ بين الورى مُـثلةً ويُـضرَبُ بي فـي هـواه الـمَـثـلْ
وماسَ وكنتُ جـريحَ الأسى فـمـالَ وقـلـبـي طعــيـنُ الأسَــلْ
فـمَن ليَ مِن لحظه إنْ غزا ومَـن لـيَ مِـن جَـفـنـه إنْ غــزَلْ
لـه دُرُّ ثـغـرٍ فـمـاذا عــسى أقــولُ وفـيـه الــلَّـمـى والعَــسَـل
يــكــادُ لــرقَّــة أعــطــافـهِ مِـن الـلِّـيـنِ يُـعـقَـدُ لـوْلا الـكـفَـلْ
فإنْ قـيـلَ بـدرٌ فـقـلْ عَـبْـدُهُ وإنْ قيلَ شمسُ الضُّحى قـلْ أجَلْ
تقرأ شعر ابن مليك فتراه ينساب انسياب الماء العذب الجاري في الجدول الرَّقراق، وتجد الشاعر اختار لمعظم شعره من الأوزان أجملها وأخفها وأكثرها إطرابًا وموسيقيَّة، ومن الألفاظ أرقَّها وأسهلها وألطفها؛ ممَّا أكسبه حلاوة وطلاوة تستثير الإعجاب، فاستمِع إليه في هذه القصيدة من مجزوء الخفيف حين قال:
قلْ لمَن يشتكي الأرَقْ يـا أخـا الــوَجْـدِ والـقـلَـقْ
أنـا في الحُـبِّ لا أرى مِــثــــل حَـــالِـي ولا أرَقّ
يـا لَـحـا اللهُ عـــــاذلًا جــاءَ بالإفْــكِ واخــتــلَـقْ
ظــنَّ أنِّـي سَـــلَــوْتُـهُ وَهَـــواكُــمْ فــمَـا صَـــدَقْ...
لـوْ رأى الـفـجـرُ خدَّهُ مـنـهُ لانْــشــقَّ وانْـفــلَــقْ
أو رأى الـبَـدْرُ وَجْهَهُ غـابَ فـي الـتَّـمِّ وانـمَـحَـقْ
أو رأى الـغـصنُ قـدَّهُ لاختفى الغُصنُ في الوَرَقْ
مـا الَّـذي ضرَّ طـيْـفَـهُ لـوْ لِـبـاب الـكـرى طـرَقْ
خاض ابن مليك في معظم أبواب الشعر العربي: الغزل والتَّشبيب والرِّثاء والهجاء والوصف والمديح، وله في الألغاز والأحاجي والتهاني وتقليد الشُّعراء السَّابقين وفي المعارضات الشعرية شعر جميل، فقد عارض داليَّة الحصري القيرواني بقصيدةٍ مدحيَّةٍ استهلَّها بالغزل على غراره، قال في بعض أبياتها:
لَـحــظٌ يَــســبـيـك مُـقـلَّـدُهُ أمْ سـيْـفٌ شاقـك مُـغـمَدُهُ...
قـاسٍ بـالـوَصل بـه مَـلَـلٌ يُـدنـيـهِ الـصَّبُّ فـيُـبـعِـدهُ
أمِن الإنصافِ أبِـيـتُ بهِ سَهْـرانَ الـلَّـيْـلِ وَيَـرقـدهُ
فالقلبُ يذوبُ عليهِ أسًى والـصَّبـرُ عَـصاهُ تجَـلُّـدُهُ
لوْ أشكي ما بي منه إلى صَخر لـتـفـتَّـتَ جَـلْـمَـدُهُ...
قلت لصديقي: لقب ابن مليك الحموي بـ (الفقَّاع) فمن أين أتاه هذا اللقب؟ فقال: لأنَّ الشَّاعر امتهن بَيْع الفُقَّاع وهو نوعٌ من الشَّراب يتَّخذ من بعض الثمار الحلوة، أو من الشَّعير ويكون على سطحه فقاقيع، وقد قال في هذا:
لم أجعلِ الفُقَّاعَ لي حرفةً إلَّا لِـمعنى حسنك الشَّاهدِ
أقابلُ الواشي بالحدِّ والعا ذلَ أســقـيـهِ مـن الـبـاردِ
محمد عصام علوش
Translate
الأحد، 17 ديسمبر 2017
أما ولماه..بقلم الشاعر/محمد عصام علوش
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
المشاركات الشائعة
-
" نصيحة " ---------------- لا يَمْنَعَنَّكَ خَوفُ الظَّالِمِينَ غَدَا جَنَّاتِ عَدْنٍ بِها الرَّحمنُ قَدْ وَعَدَا مَنْ عا...
-
صباح الخير أشرقَت شمسُ الصباح مثلَ حقلٍ من أقاح ترسلُ النورَ بصمتٍ وتَهادَى بارتياح وحبيبي لامَني ثمَّ انثنى خلفَ الوشاح ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق